بسم الاب والابن والروح القدس الاله الواحد . امـيـن .
ثبت
أن كتب العهد الجديد جُمعت قبل موت يوحنا الرسول، فاطّلع وصدّق عليها لأن الله أطال
في حياته بعنايته الإلهية لهذه الغاية المهمة وإذا قيل إنه طرأ عليها تغيير أو
تبديل، قلنا إن أئمة المسيحيين حافظوا عليها من جيل إلى آخر بغاية الاهتمام، وهم
بمنزلة سبط لاوي الذي أفرزه الله للمحافظة على الشريعة وإقامة شعائرها، فكان أئمة
الدين المسيحي منقطعين لتفسيرها وشرحها والوعظ منها، وكانوا شديدي الحرص عليها
لأنها الواسطة لخلاص أنفسهم، وتمتّعهم بالأمجاد السماوية, فلا عجب إذا ترجموها
وتناقلوها بالسند القوي المتصل من جيل إلى آخر,
لقد
كُتبت الكتب الإلهية لطوائف وأمم شتى في أنحاء الدنيا، وتُرجمت بلغاتهم، لأن الله
ألهم المسيحيين الأولين معرفة اللغات بمعجزة باهرة كما قيل: وامتلأ الجميع من الروح
القدس وابتدأوا يتكلّمون بألسنة أخرى كما أعطاهم الروح أن ينطقوا (أعمال 2: 4),
فكانت الكتب المقدسة تُتلى عليهم في كنائسهم, وهذا بخلاف كتب الأدباء أو الشعراء،
فإنها كانت قاصرة على أناس مخصوصين، ولم تُقرأ على العامة, أما كتب العهد الجديد
فكانت تُتلى في معظم بلاد الدنيا,
ولم
يتيسر للمسلمين نشر قرآنهم بمثل هذا القدر، لأنهم رأوا عدم جواز ترجمته، فكان ذلك
من أعظم الموانع في انتشاره، بخلاف الكتب المقدسة التي انتشرت انتشاراً عظيماً بحيث
كان يتعذر ويستحيل إدخال شيء فيها من التغيير أو التبديل, لأنه كيف يحدث تواطؤ بين
الملل العديدة المنتشرة في أنحاء الدنيا على تغيير كتابهم الذي يحضّهم على الأمانة
والصدق والحق؟ بل ورد فيه صريحاً أن من يزيد على هذا الكتاب يزيد الله عليه الضربات
المكتوبة في هذا الكتاب, وإن كان أحد يحذف من أقوال كتاب هذه النبوَّة يحذف الله
نصيبه من سفر الحياة (رؤيا 22: 18 و19), فمن يقبل على نفسه الضربات
واللعنات؟
وكان
اليهود الذين اشتهروا بعداوة المسيحيين في ذلك الجيل واقفين لهم بالمرصاد، بحيث لو
أتوا بزور أو كذب في الأناجيل لشنّعوا عليهم, بل كيف كان يقبل المسيحيون ما كان
كذباً أو زوراً؟ فكلام الرسل منزّه عن شوائب التحريف والتبديل,
ولنذكر
أسماء بعض الذين ظهروا في القرون الأربعة المسيحية الأولى واستشهدوا بالكتب المقدسة
وتكلموا عنها، مما يدل على متانة السند المتصل لكتب العهد
الجديد:
استشهاد
الرسل بكلام بعضهم:
كان
الرسل يستشهدون بكتب بعضهم بعضاً، معترفين بأنها وحي إلهي, فقال بولس الرسول في
1تيموثاوس 5: 18 : الفاعل مستحق أجرته ولم تُذكر هذه العبارة إلا في لوقا 10: 7 مما
يدل على أن إنجيل لوقا كان منتشراً وقت كتابة الرسول بولس هذه الرسالة, وقال الرسول
يعقوب: فإن كنتم تكملون الناموس الملوكي حسب الكتاب: تحب قريبك كنفسك، فحسناً
تفعلون (2: 8), وهو يقتبس ما ورد في متى 22: 39, وقال بطرس الرسول: كما كتب إليكم
أخونا الحبيب بولس بحسب الحكمة المعطاة له، كما في الرسائل كلها أيضاً، متكلّماً
فيها عن هذه الأمور، التي فيها أشياء عسرة الفهم يحرّفها غير العلماء وغير الثابتين
كباقي الكتب أيضاً لهلاك أنفسهم (2بطرس 3: 15 و16),
وبما
أن الله خصَّ الرسل بقوّة المعجزات، فقد ميَّزوا بين الكتب الموحى بها من غيرها،
فكانوا يستشهدون بكتب بعضهم كاستشهادهم بكتب أنبياء العهد القديم, أما الذين كانوا
معاصرين لهم:
فنذكر
منهم بعض رجال القرن الأول:
(1)
برنابا: كان عاملًا مع بولس (أعمال 13: 2 و3 و46 و47 و1كورنثوس 9: 6) ويُسمّى
رسولًا أيضاً (أعمال 14: 14) وألّف رسالة كانت لها منزلة كبرى عند القدماء ولا تزال
موجودة، استشهد فيها بإنجيل متى ونقل عنه بقوله مكتوب , وكان اليهود يستعملون هذه
الكلمة عند الاستشهاد بالكتب المقدسة, واستشهد بكثير من أقوال العهد الجديد، وذكر
عجائب المسيح، واختياره 12 تلميذاً، وجَلْده ولطمه والاستهزاء به والاقتراع على
لباسه، وقيامته في أول الأسبوع، وصعوده إلى السماء، وغير ذلك,
(2)
أكليمندس: أسقف روما وكان عاملاً مع الرسول بولس (فيلبي 4: 3) وكتب رسالة إلى كنيسة
كورنثوس استشهد فيها بكثير من أقوال المسيح الواردة في الإنجيل، ومن رسائل الرسل,
ويُظن أنه عُيِّن أسقفاً على روما سنة 91م وتوفي سنة 100م في السنة الثالثة من حكم
الامبراطور تراجان,
(3)
هرماس: كان معاصراً لبولس الرسول، وذكر اسمه في رومية 16: 14, كتب ثلاثة مجلدات في
أواخر القرن الأول استشهد فيها بكثير من كتب العهد الجديد, وكانت له منزلة كبرى عند
القدماء,
(4)
اغناطيوس: كان أسقف أنطاكية في سنة 70م واستُشهد في سنة 107م، وكتب جملة رسائل
لاتزال موجودة، استشهد فيها بالأناجيل ورسائل الرسل,
(5)
بوليكاربوس: كان تلميذ يوحنا، رسمه أسقفاً على إزمير، واجتمع بكثير من الذين رأوا
المسيح، ومات شهيداً في سنة 166م وبقيت من مؤلفاته رسالة استشهد فيها بنحو أربعين
آية من العهد الجديد، ذكر فيها اتضاع المسيح وتعليمه وآلامه وموته على الصليب،
وقيامته وصعوده, وأشار فيها إلى ما كابده بولس وغيره من الرسل من الأتعاب في
الكرازة والتبشير، وكان يتكلم عن تعاليم المسيح، وينقل عن يوحنا وغيره من الذين
عاينوا الرب,
ومن
رجال القرن الثاني:
(6)
بابياس: أسقف هيرابوليس في آسيا، نبغ بين سنة 110 و116م، واجتمع ببوليكاربوس، وربما
اجتمع بيوحنا الرسول, واستشهد في مؤلفاته بالأناجيل الأربعة وبرسالة بطرس الأولى
ورسالة يوحنا الأولى وأعمال الرسل والرؤيا,
(7)
جستن الشهيد: وُلد في إحدى مدن السامرة في فلسطين سنة 89م وآمن بالمسيحية سنة 133م
واشتهر في سنة 140م إلى أن استُشهد سنة 168, وكتب جملة كتب دفاعاً عن المسيحية،
منها رسالة للامبراطور تيطس أنطونيوس بيوس، ورسالة للامبراطور ماركوس أنطونيوس
ولأعضاء مجلس الشيوخ في روما ولسكانها, وله محاورة مع تريفو اليهودي باقية إلى الآن
تُظهر تبحّره في فلسفة فيثوغورس وأفلاطون، وأنه رأى أن الأسلم التمسّك بالمسيحية,
وتكلم عن الأناجيل الأربعة، وقال إن المسيحيين كانوا يتعبدون بتلاوتها في معابدهم،
وتكلم عن رسائل بولس وبطرس ويوحنا وسفر الرؤيا, ولشهادته منزلة رفيعة لأنها شهادة
فيلسوف علّامة,
(8)
المسيحيون في فرنسا: في سنة 170 في عهد ماركوس أنطونيوس قاسى المسيحيون في فرنسا
اضطهادات أليمة، ولا سيما في ليون وويانة فأرسلوا إلى إخوانهم في آسيا رسائل تشرح
ما يقاسونه، أشاروا فيها إلى إنجيل لوقا ويوحنا وأعمال الرسل ورسائل بولس إلى رومية
وأفسس وفيلبي وتيموثاوس الأولى وبطرس الأولى ويوحنا والرؤيا, وحافظ أوسابيوس على
معظمها, ونبغ في ذلك العصر مليتو أسقف ساردس وألَّف 13 كتاباً وصلنا بعضها, ومن
مؤلفاته تفسير الرؤيا,
(9)
إيريناوس: صار أسقفاً على ليون في سنة 170 ، وشهادته جليلة لأنه كان تلميذ يوحنا
الرسولي، واجتمع بكثير ممن رأوا الرسل, ومؤلفاته كثيرة بقي منها خمسة كتب، دحض فيها
ضلالات المضلين، وهي تدل على سعة اطلاعه على كتب الوثنيين وبدع المضلين، وتمكنه من
معرفة كتب العهد القديم والجديد, واستشهد بجميع كتب العهد الجديد، ماعدا رسالة بولس
إلى فليمون ورسالة يوحنا الثالثة ورسالة يهوذا، لعدم اشتمالها على ما يؤيد به
مطلوبه, واستشهاداته مطوَّلة، وهي تدل على أن الكتب الموجودة بيننا الآن هي ذات
الكتب التي كانت موجودة في عصره,
(10)
أثيناغوروس: نبغ في سنة 180م وكان من فلاسفة أثينا، وهو من مشاهير الكتَّاب, وألَّف
رسالة دفاعاً عن المسيحيين قدَّمها للإمبراطور ماركوس أنطونيوس، وألّف رسالة عن
قيامة الموتى استشهد فيها بالكتب المقدسة، وكذلك ثاوفيلس أسقف أنطاكية في سنة 181
وألف ثلاثة كتب، وأكليمندس الاسكندري، وترتليان وغيرهم,
ومن
رجال القرنين الثالث والرابع:
أما
العلماء الذين ظهروا في القرن الثالث فهم كثيرون، منهم أوريجانوس الذي وُلد في مصر
سنة 184 وتوفي سنة 253 ، واشتهر بالتقوى والفضيلة، حتى كان فلاسفة الوثنيين يعرضون
مؤلفاتهم عليه لتنقيحها وتهذيبها, وفسر الكتب المقدسة، وله مواعظ, وقِسْ على ذلك
ديونيسيوس أسقف نيو قيصرية وغيرهم,
ومن
القرن الرابع أوسابيوس المؤرخ أسقف قيصرية، الذي مات سنة 340 ، وهيلاريوس سنة 366
وغيرهم,
وملخص
الكلام أنه وصل إلينا من مؤلفات أولئك الأئمة الأفاضل نحو خمسين مؤلَّفاً من
مؤلَّفاتهم التي تبلغ نحو مائة، منها تفاسير على الكتب المقدسة، ومنها في مواضيع
شتى مؤيدة بآيات كثيرة من معظم الكتب المقدسة, وكان أولئك الشهود في أزمنة متنوعة
وفي ممالك شتى، فنبغ أكلمندس في روما، وأغناطيوس في أنطاكية، وبوليكاربوس في إزمير،
وجستن الشهيد في سوريا، وإيريناوس في فرنسا، وأثيناغورس في أثينا، وثيوفيلوس في
أنطاكية، وأكليمندس وأوريجانوس في الإسكندرية، وترتليان في قرطاجنة، وأوغسطين في
هيبو (وكلاهما في شمال أفريقيا) وأوسابيوس في قيصرية, وهذا يدل على انتشار الديانة
المسيحية، وعلى أنه كان لا يمكن تواطؤهم على شيء، وأن ما شهدوا به هو الحق, وقد
قارن علماء المسيحيين نحو 686 نسخة من كتب العهد الجديد خلاف التراجم والاقتباسات
والاستشهادات، فوُجدت متوافقة, وهذا يدل على تنزّه الكتب المقدسة عن التحريف
والتبديل، وسلامتها من شائبة الزيادة والنقصان, وأجمع الجميع أن كتب العهد الجديد
كانت متواترة بينهم,
قال
المعترض الغير مؤمن:
اختلف العلماء في زمن كتابة الأناجيل، لأن القدماء الأوَّلين صدَّقوا الكتابات
الواهية ودوّنوها، فاقتفى أثرهم الذين أتوا بعدهم ,
وللرد
نقول بنعمة الله :
عدم تحديد زمن كتابة كل إنجيل بالتدقيق، لايقدح فيها, والمعترض يعترف أنه مع حداثة
عهد القرآن فقد اختلفوا في زمن كتابة سوره اختلافاً كبيراً، فتارة قالوا هذه السورة
مَكية وأخرى مدنية, والمكي هو ما أتى به قبل الهجرة، والمدني ما أتى به بعدها، سواء
قاله بمكة أم بالمدينة عام الفتح أو عام حجة الوداع، أم بسَفَر من الأسفار,
واختلفوا حتى في سورة الفاتحة، فقالوا إنها نزلت بمكة من كنز تحت العرش، وقيل إنها
مدنية، وقيل إن إبليس رنّ حين أُنزلت, وذهب بعضهم إلى أنها نزلت مرتين، مرة بمكة
ومرة بالمدينة, وقيل نزلت نصفين نصفها بمكة ونصفها بالمدينة, وقس على ذلك اختلافهم
في سورة النساء، ويونس، والرعد، والحج، والفرقان، ويس، وص، والحجرات، والرحمن،
والحديد، والصف، والجمعة، والتغابن، والملك، والانسان، والمطففين، والأعلى، والفجر،
والبلد، والليل، والقدر,
هذا
بالرغم من وجود فرق كبير بين الإنجيل والقرآن: (1) فالقرآن حديث عهد بخلاف الإنجيل
(2) اختلاف المسلمين هو في ذات كل جزء من أجزاء القرآن، بل في ذات الآيات, أما
الاختلاف الذي حصل في زمن كتابة الإنجيل فهو عن المجموع كله، وليس عن أصحاح ولا عن
آية, ومع ذلك لم يقل أحد إن هذا أخلّ بالقرآن وكان موجباً
لرفضه
تعليقات
إرسال تعليق